تحت القائمة

الرواية المعاصرة .. نحو كسر النمط وإعادة اختراع الذات

✍️ يوسف خليل السباعي

الرواية بوصفها جنسًا أدبيًا مفتوحًا على كافة الأشكال والتجارب، تبدو اليوم وكأنها بلغت نقطة حرجة تتطلب إعادة نظر جذرية. فما اعتُبر في السابق “زمن الرواية” قد تحوّل من إعلان حيوي إلى شعار ثقيل، ومن أفق للتجريب إلى قيدٍ نمطي يُكرّس التكرار والرتابة. الخطر لا يكمن في وفرة الإنتاج الروائي، بل في انغلاقه على ذاته، واعتياده على بنى سردية محددة، ولغة مألوفة، وتصورات جاهزة عن العالم. الرواية التي لا تتجدد، لا تكتشف، لا تجرح، تفقد قدرتها على المقاومة، وتتحول إلى منتج استهلاكي لا يحمل أي رهانات فكرية أو جمالية.

إن الأزمة التي نعيشها اليوم هي أزمة مزدوجة: أزمة شكل وأزمة رؤية. من جهة، تشهد الرواية المعاصرة نوعًا من الاعتياد البنيوي، حيث تتكرر القوالب نفسها: الراوي العليم، السرد الخطي، التحولات النفسية المتوقعة، والنهايات المحسوبة بدقة شبه رياضية. كثير من الروايات لا تختلف كثيرًا عن تقارير طويلة، تفتقد للدهشة، وتفتقر إلى اللعب الجمالي واللغوي. ما يُسمى بالواقعية الجديدة كثيرًا ما يُستخدم كواجهة لاستنساخ الواقع لا لتفكيكه، لترويضه لا لإعادة اختباره. وهذه ليست أزمة تقنية، بل أزمة في فهم وظيفة الرواية ذاتها: هل المطلوب منها أن تحكي فقط؟ أم أن تكون مختبرًا لغويًا، حوارًا مع الفنون الأخرى، وآلية لكشف المسكوت عنه والمقموع والمضمر؟

من جهة ثانية، هناك أزمة أعمق تتعلق بالموقف من الرواية. كثيرون اليوم ينظرون إليها باعتبارها “سيدة الأجناس” و”ديوان العصر”، ما يُحمّلها أكثر مما تحتمل. الرواية ليست بديلًا عن الشعر، ولا عن الفلسفة، ولا عن السينما. إنها شكل مفتوح، لا يزدهر إلا إذا انفتح بدوره على الأشكال الأخرى، وامتلك وعيًا بتاريخه، ونقدًا لأدواته، وشكًّا في سلطته. المشكلة تبدأ عندما تتحول الرواية إلى يقين، إلى نظام مغلق لا يتيح إلا قراءة واحدة، أو حين تكتب لترضية ذوق السوق لا لفتح أبواب المغامرة والتجريب.

التسليع الثقافي والسباق المحموم نحو الجوائز جعلا عددًا كبيرًا من الكتّاب يكتبون وهم يضعون “القارئ المستهدف” في الذهن، لا النص الممكن. هكذا، تتحول الرواية من مغامرة إلى وصفة، ومن سؤال مفتوح إلى إجابة جاهزة. في المقابل، صار القارئ، بدوره، يبحث عن “النص السهل”، عن القصة المفهومة، عن النهاية التي تُرضي، لا تلك التي تُربك وتُفكك وتدفع إلى التأويل. والنتيجة: نصوص مطواعة، آمنة، متوقعة، تكرّس المألوف عوض زعزعته.

إن الحديث عن كتابة روائية جديدة لا يعني مجرد تجديد في التقنيات، بل انقلابًا في الرؤية. لا بد من رواية تعي نفسها بوصفها نصًا غير مكتمل، يكتب ذاته، ويقاوم التفسير الأحادي، ويحتضن التعدد والتوتر واللايقين. كما أشار النقاد والفلاسفة المعاصرون، فإن المعنى لا يُمنح من طرف المؤلف، بل يُولد عبر القراءة. الرواية الحقيقية هي التي تخلق القارئ لا التي تستهلكه، التي تربك ولا تشرح، التي تجرح لا تُطمئن.

في هذا السياق، تبدو الحاجة ملحة إلى رواية تفكك أدواتها، تشتغل على لغتها لا بلغتها فقط، تسائل العالم لا تنقله، وتكتب لا لتروي، بل لتفكك، لتحاور، لتنسف الحدود بين الأجناس، بين الفنون، بين الحواس. الرواية التي لا تتورط في لحظة تشكّلها، ولا تدفع قارئها إلى أن يتورط معها، هي رواية مكتملة ظاهريًا، لكنها ميّتة من الداخل. الرواية التي تنجو ليست هي التي تُفهم بسهولة، بل التي تفتح المجال لفهم لا ينتهي، وتأويل لا يستقر، وأسئلة لا إجابات عليها. فالكتابة التي لا تُربك، لا تكشف. والكتابة التي لا تطرح أسئلة من نوع “لماذا أكتب؟” و” كيف أكتب؟”،هي كتابة فاقدة للضرورة.

إذا كان ثمة خلاص للرواية اليوم، فلن يكون في المحافظة على قوالبها، بل في زعزعتها. لن يكون في اطمئنانها، بل في قلقها. لن يكون في استقرارها داخل الأدب، بل في اختراقها له نحو الفن، نحو الفلسفة، نحو الحياة ذاتها.

تحت المقال