تحت القائمة

نحو مقاربة جديدة لتدريس البحث العلمي في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية

✍️د. منعم أولاد عبد الكريم

تطرح مسألة تدريس البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية إشكالات متعددة تتعلق بالمنهجية، والمضامين، والأهداف. فالممارسات الراهنة تظل أسيرة نمط شكلي ومفاهيمي يركّز على التعريفات والتوثيق النظري أكثر مما يركّز على نقل المعرفة العملية والإجرائية. وعليه، فإن تكوين الباحثين غالبًا ما ينتهي إلى إنتاج طلبة يملكون رصيدًا مفاهيميًا، لكنهم يفتقرون إلى المهارات العملية والقدرة على الممارسة البحثية الفعلية.

هذه الدراسة تسعى إلى إعادة التفكير في أساليب تدريس البحث العلمي، عبر اقتراح مقاربة نقدية وعملية تُركّز على إشراك المتعلمين في عملية إنتاج المعرفة نفسها، وفي إطار مؤسساتي داعم.

أولًا: حدود المقاربة التقليدية في تدريس البحث

المنهجية التقليدية في تعليم البحث غالبًا ما تُقدَّم كمسار خطي يتألف من مجموعة من المراحل المتسلسلة: تحديد الموضوع، صياغة الإشكالية، مراجعة الأدبيات، جمع البيانات، التحليل، والاستنتاج. ورغم أن هذا الترتيب يوفر للطلبة إطارًا مرجعيًا عامًا، إلا أنه يظل حبيس الطابع الشكلي والوصف الخارجي.

هذا النمط من التدريس يختزل البحث في كونه سلسلة من الخطوات الشكلية، بدل أن ينقله باعتباره ممارسة حيّة ومعقدة تتطلب استراتيجيات، وتكتيكات، ومهارات دقيقة. هنا نلمس ما أشار إليه بوبر (Popper) حين انتقد التصورات التراكمية الساذجة للعلم، مؤكدًا أن البحث عملية نقدية تتجاوز مجرد اتباع خطوات محددة سلفًا.

ثانيًا: البحث كمعرفة عملية وإجرائية

إن البحث العلمي، في جوهره، ليس مجرد تعريفات ومفاهيم، بل هو قبل كل شيء معرفة عملية وإجرائية. إنه مجموع من المهارات والقدرات والاستراتيجيات التي تتطور بالممارسة، مثلها مثل أي حرفة أو صنعة. فالباحث الحقيقي لا يُصنع بالقرارات الإدارية أو المراسيم البيروقراطية، بل يتكوّن عبر مسار طويل من التكوين والتجريب والتفاعل النقدي.

هذا ما يتقاطع مع تصور أرسطو للمعرفة العملية (Phronesis) التي لا تُختزل في التنظير بل تتجلى في الممارسة التأملية والتطبيق الفعلي. كما ينسجم مع ما أشار إليه كون (Kuhn) في حديثه عن “العلم الاعتيادي” الذي يُمارس داخل الجماعات العلمية، حيث تُكتسب المهارات عبر التمرس داخل تقاليد معرفية قائمة.

ثالثًا: دور المشرف وحدوده

لا شك أن دور المشرف أساسي في عملية تكوين الباحث. غير أن الاقتصار على علاقة ثنائية بين الطالب والمشرف ينطوي على مخاطر متعددة، منها التبعية أو الانزلاقات الشخصية التي قد تُعيق تطور المسار العلمي. لذلك، من الضروري التفكير في آليات مكملة، مثل لجان الإشراف الجماعي التي توفر شبكة أوسع من الدعم الأكاديمي، أو تحويل البحث نفسه إلى فضاء مؤسساتي تُمارس داخله العملية التعليمية في سياق جماعي.
هذا التوجه يجد ما يسنده في مقاربة لاكاتوش (Lakatos)، الذي شدّد على ضرورة التفكير في البحث ضمن “برامج بحثية” جماعية تتطور باستمرار عبر التفاعل بين الباحثين، بدل أن تُختزل العملية في مجهود فردي معزول.

رابعًا: من الباحث كمٌنتَج إلى الباحث ككائن متحوّل

إن أحد أكبر الأخطاء التي تقع فيها المؤسسات الأكاديمية والجامعية اليوم هو التعامل مع الباحث باعتباره “منتجًا” قابلًا للتصنيع السريع على شاكلة خطوط الإنتاج. هذه الرؤية تخضع لمنطق السوق والاستهلاك، لكنها لا تتناسب مع طبيعة البحث العلمي الذي يتطلب تكوينًا عميقًا وطويل الأمد.
فإذا كان الحصول على الكلأ مثلا لا يتطلب سوى أشهر قليلة، فإن تكوين غابة يستلزم سنوات طويلة من الرعاية والانتظار. وبالمثل، فإن تكوين الباحثين لا يتم على المدى القصير، بل عبر مسار طويل يدمج المعرفة النظرية، والمهارات العملية، والتجارب الميدانية.

هذا الطرح يقترب من موقف فاييرآبند (Feyerabend)، الذي انتقد الرؤية الأداتية للعلم، ودافع عن فكرة أن الإبداع العلمي لا يمكن إخضاعه لمنطق إنتاجي أو بيروقراطي ضيق.

خامسًا: مستويات المعرفة في تدريس البحث

تدريس البحث العلمي يجب أن يدمج ثلاثة مستويات متكاملة من المعرفة:

1. المعرفة النظرية (معرفة-ماذا): وتشمل النظريات والنماذج العلمية والتراث الفكري، في حوار دائم مع أعمال المؤلفين السابقين. هذا ينسجم مع تصور كون للعلم كتراكم داخل “نموذج إرشادي” (Paradigm).

2. المعرفة الإجرائية (معرفة-كيف): وهي معرفة تقنية تستند إلى الممارسة، وتوجّه الفعل البحثي، وتمكّنه من التطبيق الفعّال. هذه الفكرة تلتقي مع ما طرحه أرسطو حول الطابع العملي والتطبيقي للمعرفة التقنية (Techne).

3. المعرفة القيمية (معرفة-لماذا): وتشمل القيم والأهداف الأخلاقية والسياسية التي تحكم البحث العلمي، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان، وتعزيز الروح النقدية، والطابع التحرّري للعلوم الاجتماعية. هذا البعد القيمي ينسجم مع تصورات مدرسة فرانكفورت حول البعد التحرّري للنظرية النقدية.

سادسًا: نحو مقاربة جديدة لتدريس البحث

بناءً على ما سبق، يمكن صياغة مقترح أكاديمي لتدريس البحث يقوم على أربع ركائز مترابطة:

1. إشراك المتعلمين في عملية الإنتاج الفعلي للمعرفة بدل الاقتصار على الوصف والتحليل.

2. التركيز على الممارسة العملية والتدريب المستمر في جميع مراحل البحث.

3. التخطيط الاستراتيجي للتكوين عبر المستويات التعليمية المختلفة: التعليم الثانوي، الجامعي، الدراسات العليا، وصولًا إلى الاحتراف البحثي.

4. تعزيز التكوين بالفرق البحثية داخل بيئات أكاديمية مؤسساتية تُحفّز الإنتاج الجماعي وتدعم الاستمرارية.

إن تعليم البحث العلمي إذن في العلوم الاجتماعية والإنسانية لا ينبغي أن يظل أسير التصورات الشكلية والبيروقراطية. فهو عملية طويلة ومعقدة، تحتاج إلى صبر، وممارسة، ودعم مؤسساتي. إننا في حاجة إلى مقاربة جديدة تُعلِّم البحث باعتباره ممارسة حيّة، وتُكوّن الباحثين عبر انخراطهم الفعلي في إنتاج المعرفة، في بيئة أكاديمية قائمة على القيم النقدية والتحررية.
بهذا المعنى، لا يكون الباحث مجرد “منتج نهائي”، بل مشروعًا معرفيًا متجددًا، يكتسب نضجه بقدر ما يراكم من تجربة ووعي وممارسة نقدية.

تحت المقال