{ النص آلة كسولة، يجب أن تستعيد نشاطها بفعل القارئ}… أمبرتو إيكو
كان لا يحب مرافقة أي أحد سوى كلبه، لا يمتلك منزلا أو دارة مثل الآخرين، بل إنه لا يعرف الآخرين. يجوب الطرقات بالنهار مرفوقا بكلبه الذي ينبح على الغرباء الذين يخافون منه ويهربون أو يتراجعون إلى الوراء. وعندما يأتي الليل يدخل إلى كراج مهمل تركه مالكه للبؤساء ولعابري السبيل وللمتشردين للنعاس فيه.
كان الكراج ممتلئا بهم في الأيام الأولى الفائتة، أما اليوم، فإنه فارغ، يوجد به التراب والأوساخ وبالقرب منه أربعة حاويات قمامة خضراء مهملة.
كان هذا الكراج قريبا من قاعة الشموع للحفلات، وكان الشاب عندما يستنشق السلسيون يحس بدوخة وتغدو رائحة جسمه مثل رائحة الغاز أو الكازوال أو قريبة من ذلك، رائحة تخنق الأنفاس والكائنات والأشجار والهواء، الوحيد الذي لم يكن يختنق هو الكلب الذي كان قد اعتاد على شمها.
وفي ليلة من الليالي انطلق صوت يغني مرفوقا بموسيقى شعبية من قاعة الشموع للحفلات فخرج الشاب ذو الشعر الأحمر ودخل في دوامة من الرقص ولم يتوقف عنه إلا بعد أن جاء شرطي وهدده بأنه سيعقله في الحال إن لم يتوقف عن الرقص، أما كلبه فنظر إلى الشرطي ونبح في وجهه، فتراجع إلى الوراء خائفا من أن يعضه، وكان بوسع الشرطي أن يخرج بسهولة مسدسه ويقتل الكلب، إلا أنه لم يفعل!
نام الشاب ذو الشعر الأحمر النهار برمته، فيما كان كلبه يجوب الطرقات ويأكل أي شيء يعثر عليه. كان الكلب يدرك أن صاحبه نائم ولا يريد أن يزعجه أحد، وخلال نومه رأى الشاب أنه أصبح رئيسا لديوان الوزير، يرتدي بدلة زرقاء إسبانية وربطة عنق زرقاء ألمانية وحذاء إيطالي الصنع مسودا كسواد الفحم كما يرتدي قميصا أبيضا أميركيا، وهو يعطي الأوامر لباقي المستشارين والمساعدين والموظفين بالعمل السريع والوقوف طاعة للوزير الذي ينتظر وصول الطائرة التي ستقله إلى حضور اجتماع خاص جدا في بلاد العجائب، ولا يدري أحد أين هو موقع هذه البلاد.
عندما استيقظ الشاب ذو الشعر الأحمر وجد كلبه قدامه، فضحك، لأنه رأى نفسه على حقيقتها وأنه والتراب والكلب شيء واحد. ضحك بلا توقف، وظل يضحك والكلب يتبعه وكل من مر به أو قدامه اعتبره مجنونا.
لم يسبق للشاب ذو الشعر الأحمر أن رأى مثل هذا الحلم. كانت أحلامه السابقة بسيطة حيث يرى نفسه يجلس في دكان قديم يبيع بعض الأغراض، أو يخدم كسالا في حمام الرجال، أو يغسل الصحون في مطعم شعبي، أو نادلا في مقهى، أما أن يرى في الحلم أنه أصبح رئيسا لديوان الوزير فإنه شيء لا يصدقه عاقل، لكنه لم يعرف أي وزارة فهناك وزارات عديدة!
وفي يوم من الأيام، قرر الشاب ذو الشعر الأحمر أن يغادر الكراج يرافقه كلبه كما لو أنه علم أن صاحب الكراج فكر في العودة إليه لاستغلاله في التجارة.
غادره وبقي نائما في الطرقات نهارا وليلا وكلبه يتبعه إلى أن التقى ذات يوم بطفل أصبح صديقه الأقرب إليه.
كان الطفل يستنشق السلسيون مثله فسارا في نفس الطريق متعانقان والكلب يتبعهما!
اللوحة للفنان أميديو موديغلياني