تحت القائمة

الوجود والتخييل بين الانمحاء وإعادة البناء

تتبدّى التجربتان السرديتان لكلٍّ من عبد الجليل الوزاني التهامي ويوسف خليل السباعي كرحلتين متوازيتين في البحث عن المعنى داخل تخوم الوجود واللغة والذات. فبينما تنغمس نصوص السباعي – كما في النسر، الشرفة، والسيدة نون – في العدم والعبث والتفكك، تمارس نصوص الوزاني – في صدق أبريل وكذبت كل الشهور، امرأة في الظل، وتطاون… أواصر وأشجان – فعل الكتابة باعتباره إعادة بناء للذات عبر الذاكرة والتخييل واللغة.

يلتقي الكاتبان عند سؤال الوجود، لكنهما يفترقان في النبرة والغاية. السباعي يكتب من قلب العدم، حيث تتحول اللغة إلى فضاء للانمحاء، بينما ينطلق الوزاني من تأمل الخلق وإحياء المعنى المفقود.

في نصوص يوسف خليل السباعي، يغدو السرد مختبرًا فلسفيًا للعدم. في النسر تنفلت الذات من حدودها، وتتحول الشخصيات إلى رموز للتلاشي والتحول داخل عالم ساخر يتهشم فيه المعنى. أما الشرفة فتجعل من اللغة حصنًا ضد الصمت والعزلة، في حين تكشف السيدة نون عن عبث الانتظار وسط غياب السلطة الرمزية، لتعرّي العلاقة المأزومة بين الإنسان واللغة والسلطة.

هكذا، تكتب نصوص السباعي الذات وهي تتفكك، وتحوّل الكتابة إلى فعل مقاومة عبثية ضد المعنى ذاته.

في المقابل، يقترح عبد الجليل الوزاني التهامي كتابة تصالح الإنسان مع ذاته عبر استعادة الذاكرة وتفعيل التخييل كقوة للخلق. في صدق أبريل وكذبت كل الشهور، تتخذ السيرة الذاتية بعدًا تخييليًا يجمع بين الذاتي والجماعي في استحضار بروستي لأسئلة الزمن والصدق والكذب. هنا، لا تنهار الذات كما عند السباعي، بل تتجدد عبر الكتابة التي تتحول إلى أداة شفاء وبناء.

وتبلغ هذه الرؤية ذروتها في امرأة في الظل، التي تُبنى على شكل رسائل بين زينب وجمال، حيث تتحول الرسالة إلى مساحة للغياب والبحث عن الآخر. إنّها كتابة وجودية تُحوِّل الفقد إلى جمال، وتحوّل الغياب إلى لغة. ليست الرواية عن امرأة فحسب، بل عن كل ذات تبحث عن نفسها في مرايا الكلمات المؤجلة.

أما تطاون… أواصر وأشجان، فتجسّد محاولة لقراءة الذات المغربية في علاقتها بالمدينة والتاريخ والذاكرة. تفتتح الرواية بالموت وتنتهي بالذاكرة، متخلّية عن الخطية الزمنية، كما تصفها جوليا كريستيفا. تتحرك الشخصيات – امجيدو، رحمة، رضا، عزيز – بين الماضي والمنفى، لتشكل طيفًا من الرموز عن الانتماء والفقد والبحث عن المركز المفقود. هنا، يتحول السرد إلى تحليل نفسي للجماعة المغربية، وإلى كتابة تجعل من اللغة جسدًا يتكلم ويفيض بالوجع الجمعي.

بهذا المعنى، يكتب الوزاني التهامي الوجود كإمكانية للخلق، بينما يكتب السباعي العدم كقدرٍ إنساني. الأول يعيد بناء المعنى عبر الذاكرة، والثاني يهدمه بالسخرية والعبث. ومع ذلك، يشترك الاثنان في وضع الإنسان في مواجهة ذاته ولغته وزمنه، حيث لا يستقر المعنى، ويغدو النص الكائنَ الحقيقي الوحيد.

في النهاية، تشكل تجربتا الوزاني التهامي والسباعي وجهين متكاملين للتجربة الوجودية في السرد المغربي والعربي الحديث :

يوسف خليل السباعي يكتب من قلب الفراغ، كاشفًا عن هشاشة الكينونة، بينما يعيد عبد الجليل الوزاني التهامي بناء الحياة من داخل الذاكرة والتخييل. وبين الانمحاء والإلهام، بين التفكيك والتخليق، تتأسس الكتابة كأفق للوعي وكمقاومة إنسانية للعدم والزمن.

تحت المقال