تحت القائمة

قصص قصيرة جدا

كتبها : يوسف خليل السباعي

1- العود

كان الرجل العجوز يجلس على كرسي خشبي، مرتديًا قميصه الأزرق وسرواله الأبيض، وشعره القصير، ووجهه المربع. كان يعزف على العود ويغني :

“ناح النواح والنواحة
على بقرة حاحا النطاحة
البقرة حلوب
تحلب قنطار
لكن مسلوب من أهل الدار”

ظل يغني ويعيد الغناء كما كان يفعل في شبابه، وسط الطلبة والمعطلين والفقراء والمساكين والمسلوبين والمسروقين. هكذا كنت أراه… لكن الرجل مات، ولم يتبقَ سوى عوده وحيدًا، مركونًا في موضعه القديم.

2- المسافة

كل ما كان يشغل تفكير السيد (راء) هو الابتعاد عن الناس. كان يحب الوحدة والقراءة، والكتب التي يقرأها كان يخفي عناوينها عن الجميع.
وفي أحد الأيام، مع اقتراب الشمس من الغروب، وُجد وحيدًا ميتًا على كرسي خشبي طويل في الحديقة.
عندما اقترب الناس لحمله إلى سيارة الإسعاف، سقط كتاب على الأرض.
كان عنوانه بالفرنسية: Les mains sales لجان بول سارتر.

3- قميص الأسد الأبيض

كانت سلمى تعشق الأسود، لكنها تحب أن ترتدي قميصًا أبيض يحمل صورة الأسد، وتجوب به الطرقات والشوارع والأزقة.
عندما تدخل المحلات لتشتري قمصانًا بيضاء برسومات الأسود، لم تسلم من نظرات البشر المحملة بالخوف والفزع، وهي نظرات غريبة لا يفهمها أحد.

لم يعرف أحد معنى عشقها لرسومات الأسود، ولا معنى القميص الأبيض تحديدًا، مع وجه الأسد المتعجرف وجسمه القوي الذي تنبعث منه رائحة كريهة من فمه الكبير. لم تكن سلمى تشم الرائحة، لأن الحيوان المرسوم لا يتحرك إلا عندما تنظر إليه الأعين، ولا تسمع زئيره إلا البشر بأذانهم الواسعة.

وفي ليلة من الليالي، رأت سلمى في نومها أسدًا يغادر قميصها الأبيض ويخرج من الباب، مغلقًا إياه بهدوء، مكتومًا أنفاسه حتى لا تصل الرائحة إليها، ثم يجرى إلى الغابة البعيدة ويختفي.

وفي الصباح، وجدت الأسد مرسومًا على القميص كما لو كان حجرًا صامتًا.

4– الحلاق عبد الغفار

تحت النوافذ المصبوغة بالأخضر والأبيض، كانت هناك نافذة عالية تظهر منها أحيانًا كريمة على محل الحلاق عبد الغفار التطواني. لم يعرف أحد من أين جاءت أو إن كانت تسكن المنزل الذي اشتراه والدها عبد السلام.

كنت أزور المحل أحيانًا للحلاقة. وذات يوم سألت عبد الغفار عن عبد السلام فقال:

المسكين عبد السلام، منذ وفاة زوجته خدوج، يتألم. يظهر ذلك من جسده الذي أصبح كهيكل عظمي، ووجهه الشاحب كالخشب المتهالك. صامت، يكتفي بالسلام فقط.
قلت: لم تترك له أبناء؟

تركت له كريمة، ابنته الوحيدة، ولا يسأل عنها أحد.

كان عبد الغفار كثير الثرثرة عن الآخرين، قليل الحديث عن نفسه. كان يلعب بمقصه ومشطته، ثم يأتي بالسيكادور كأنه يكوي قميصًا أسود. وسأله زبون مرة:

ماذا عنك؟ نحن لا نعرف عنك شيئًا.
أجاب عبد الغفار بغضب:

أنا مجهول يا ابن الكلب، اخرج من محلي!

ثم عاد وجلس، ممسكًا قلبه، ورأى وجهه في المرآة اليمنى، وقال متألمًا:

إني أحب كريمة!

5- أرسطو

عندما قرأ مروان الصنهاجي جملة لأرسطو في كتاب: “الهروب هو السبب الوحيد للفشل، ولذا فإنك لا تفشل ما دمت لم تتوقف عن المحاولة”، قال في نفسه:

“الفيلسوف اليوناني لم يقصد نهاية العالم، بل الطبيعة البشرية التي تتعرض للصدمات”.
نظر إلى الساعة المعلقة على حائط الصالون الأخضر، ثم خرج إلى الشارع. مر بمقهى ومطعم، وطلب الفراقش. أكل بشهية، وتذكر جملة أرسطو: “الهروب طريق للاختباء وعدم المواجهة، والمحاولة تعيد الوقوف على القدم”.

بعد ذلك، زار مكتبة “أغورا”، اشترى كتبًا، وواصل تفكيره في أن “الفشل لا يتحقق ما دمت تحاول”.

6- سقراط

في مقهى “أميستاد”، التقيت بصديق قديم يبحث في كتب الفلسفة، وسألني: لماذا تجرع سقراط السم؟

لم أجد جوابًا واضحًا، وأجبته بملاحظات ساخرة عن القلق والماء. لكنه واصل حديثه، متسائلًا عن معرفة سقراط.

شرحت له أن سقراط قال إنه لا يعلم إلا أمرًا واحدًا: أنه لا يعلم أي أمر، وذلك للتأكيد على الصدمة الفكرية للمعرفة في عصره.

قال متعجبًا: “… ولكنه تجرع السم”. أجبته بهدوء: سقراط مات جسديًا، لكن فلسفته باقية.

7- السلم

كان أمبرتو إيكو يستخدم السلم للوصول إلى الكتب على الرفوف العالية. وكنت أتساءل كيف يمكنه الوقوف طويلاً على السلم، بينما الكتب تتكدس من الأرض حتى السقف.

السلم وسيلة للوصول إلى الكتب، وللصباغة أو الإصلاح أو التلصص، لكنه غدار، فقد يجعلك تسقط وتصاب بجروح.

8- المرأة الرشيقة

أثناء تصفحي مكتبة إسبانية، جذبني غلاف رواية يظهر امرأة رشيقة ترتدي قميصًا أزرق وتدخن سيجارة.

كانت السيدة باولا، مالكة المنزل، تهتم بالكتب الإسبانية، وتحب خوان غويتصلو وأرتورو بيريز.

في الليل، كنت أراقبها وأعود إلى مكتبتي لأقرأ دون رؤية الغلاف، حتى اكتشفت أن المرأة الرشيقة هي ذاتها في كل الكتب، بغض النظر عن الكاتب أو العنوان.

في صباح اليوم التالي، وجهتني السيدة باولا إلى الطابق العلوي، حيث وجدت امرأة رشيقة تطل من نافذة على جبل بعيد.

9 شقائق النعمان

في إحدى القرى التي أزورها أحيانًا للهروب من ضغط العمل، كنت أتأمل الطبيعة، وحقول القمح والهضاب والبيوت الطينية.

ذات يوم، لاحظت انتشار شقائق النعمان على حافة الحقل، وأحسست بهيبة غريبة. كانت تدور مع الشمس وتغلق أوراقها بالليل كما لو تحمي نفسها.

تذكرت لوحة فان خوخ التي رأيتها من قبل، وأدركت أن شقائق النعمان مصدرها الطبيعة، ليست مجرد لوحة.

تحت المقال