تعيش مدينة الحسيمة ومعها عدد من جماعات الإقليم حالة غليان صامت منذ توصل الأسر بأولى فواتير الماء والكهرباء الصادرة عن الشركة الجهوية متعددة الخدمات بجهة طنجة تطوان الحسيمة. فبدل أن يطمئن انتقال التدبير من المكتب الوطني إلى الشركة الجهوية المواطنين بمرحلة جديدة من الانضباط والشفافية في طريقة احتساب الفواتير، أعادا إلى الأذهان مباشرة التجارب التي عاشتها الجهة مع شركات التدبير المفوّض، وفي مقدمتها أمانديس.
في الأيام الأخيرة، فوجئ سكان الحسيمة بفواتير مرتفعة بشكل غير مسبوق، بعضها تضاعف مقارنة بالشهور الماضية، دون أي تغيير في نمط الاستهلاك المنزلي. هذا الارتفاع “غير المبرر” وضع الساكنة في حالة ارتباك، خاصة وأن طريقة احتساب الفاتورة بقيت غامضة.
ما وقع في الحسيمة لا يمكن عزله عن التجارب التي سبقت في مناطق أخرى. فبمجرد أن بدأت الأخبار تتوارد عن اضطرابات الفوترة بجهة فاس–مكناس حيث وصلت فواتير إلى 400 و800 درهم رغم ضعف الاستهلاك الفعلي، أصبح سكان الشمال يستشعرون الخطر. ذلك أن الحسيمة تعتبر أول منطقة في الجهة تظهر فيها مؤشرات مشابهة لما وقع في فاس، ما يجعل التخوف مشروعا من انتقال عدوى الخلل التقني والإداري إلى باقي مدن الجهة.
ولأن سكان الحسيمة ينتمون لنفس الجغرافيا التي عانت سابقا من تجربة أمانديس، فإن الذاكرة الجماعية تستحضر مباشرة سيناريو الفواتير الملتهبة وغياب الشفافية ونظام الأشطر المرهق وسياسة “خلّص وشكي”. لذلك لا يبدو مفاجئا أن ترتفع الأصوات اليوم في الحسيمة قبل غيرها، فالإقليم متمرس على رصد الاختلالات ورفضها، وقد دفع ثمن صراعات سابقة مع سوء تدبير هذا القطاع.
لكن ما يزيد الوضع حساسية في الشمال هو الذاكرة الاحتجاجية القوية. فمدينتا طنجة وتطوان عاشتا قبل سنوات واحدة من أضخم موجات الغضب الشعبي ضد أمانديس، حين خرج الآلاف إلى الشوارع رفضا للفواتير المرتفعة. تلك الاحتجاجات لم تكن مجرد ردود فعل عابرة، بل رسخت لدى السكان حساسية كبيرة تجاه أي خلل في فواتير الماء والكهرباء.
لقد كان الانتقال من شركات التدبير المفوض الأجنبية إلى شركة جهوية عمومية يقدم كخطوة نحو “مغربة” تدبير المرافق الحيوية وتعزيز شفافية الخدمات الأساسية، غير أن الحسيمة، أصبحت المؤشر الأول على مدى قدرة هذا النموذج الجهوي على النجاح. فإذا تعثر التدبير في أول اختبار، فمن الطبيعي أن يتسلل الخوف للمواطنون في بقية مدن الجهة.
إن استعادة الثقة في الشركات الوطنية تبدأ من الحسيمة. وما لم تصحح الاختلالات فورا، فإن موجة القلق الحالية قد تتحول إلى نقاش جهوي واسع وربما أكثر حول جدوى النموذج الجهوي برمته.