من جديد، يجد القطاع الصحي نفسه في قلب عاصفة من الغموض والجدل. فبلاغ جمعيات المصحات الخاصة، الذي نفى بشكل قاطع توصل أي مصحة بدعم أو منحة استثمارية من الدولة، فجّر أسئلة مشروعة حول مصداقية التصريحات الحكومية الأخيرة، خاصة بعد أن أكد وزير الصحة نفسه أنه طالب اللجنة الوطنية للاستثمار بوقف صرف هذه المنح. هذا التضارب بين الخطاب الرسمي وبلاغات الفاعلين في الميدان يضع الحكومة أمام امتحان صعب في الشفافية والمصداقية.
فمن غير المقبول أن تظل مسألة تتعلق بالمال العام، وبقطاع حساس كالصحة، رهينة الصمت والغموض. إذا كانت هناك فعلاً مصحات استفادت من منح استثمارية، فعلى الحكومة أن تعلن الأسماء والمعايير والظروف التي أُقرت فيها تلك المنح. أما إذا لم يحدث ذلك، فعليها أن تُكذب رسمياً هذه الادعاءات وتوضح للرأي العام مصدر الخلل في التواصل الحكومي. فالإبهام في مثل هذه القضايا يخلق فراغاً تملؤه الإشاعات والريبة، ويقوّض ثقة المواطنين في المؤسسات.
ولا يمكن النظر إلى هذا الجدل المعزول عن السياق العام الذي يعرفه القطاع الصحي العمومي، المثقل بالأزمات والنواقص البنيوية. فالمستشفيات العمومية تعاني من خصاص مهول في الموارد البشرية، ومن غياب التجهيزات الأساسية، ومن انقطاع الأدوية والمستلزمات بشكل متكرر. في ظل هذا الوضع، يبدو من العبث توجيه أي دعم مالي إلى القطاع الخاص الذي يشتغل بمنطق الربح، في حين أن المريض المغربي البسيط يعاني في الطوابير الطويلة أمام المراكز الصحية و المستشفيات العمومية.
وفي خضم هذا الجدل، خرجت وزارة الصحة ببلاغ آخر حول نتائج التحقيق في حالات الوفيات داخل مستشفى عمومي بمدينة أكادير، معلنة إحالة الملف على القضاء وتوقيف المعنيين بالأمر احترازياً. خطوة تبدو في ظاهرها حريصة على المساءلة، لكنها تثير سؤالاً جوهرياً: هل نحاسب الأفراد أم المنظومة؟ وهل نكتفي بإجراءات ظرفية لتسكين الغضب، أم نذهب إلى جذور الداء؟
لقد صار من السهل اليوم تحميل الأطر الصحية وزر كل الأخطاء والمآسي التي يعرفها القطاع. لكن هذا التوجه خطير ومجحف، لأنه يتجاهل حقيقة أن هؤلاء المهنيين يشتغلون في ظروف قاسية، وفي بيئة تفتقر إلى أبسط الوسائل. فالممرض أو الطبيب الذي يواجه يومياً ضغطاً مهنياً هائلاً، دون دعم مادي أو تجهيز لائق، لا يمكن أن يُحول إلى شماعة يعلق عليها فشل السياسات العمومية.
الأطر الصحية ليست خصماً للمواطن، بل شريكاً في معاناته، وضحية مثلما هو ضحية لسياسات التقشف والارتجال. والمطلوب من الحكومة أن توفر لهم شروط العمل والكرامة، لا أن تجعل منهم أكباش فداء كلما ظهرت أزمة أو مأساة جديدة. الإصلاح لا يُبنى على التضحية بالعاملين في الميدان، بل على إصلاح السياسات التي أوصلتنا إلى هذا الوضع.
وإذا كانت الحكومة ترفع شعار “إصلاح المنظومة الصحية”، فعليها أن تبدأ من الأساس: تمويل المستشفيات العمومية، وتحفيز الموارد البشرية، وتوفير المعدات والأدوية، بدل ضخ الأموال في قنوات غامضة باسم دعم الاستثمار الخاص. فالمال العام ليس غنيمة، بل أداة لتحقيق العدالة الصحية والاجتماعية. وأي انحراف عن هذا المبدأ هو طعن مباشر في روح الدستور وثقة المواطن و القسم المؤدى في حضرت ملك البلاد.
إن الشفافية اليوم ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة وطنية. المطلوب من الحكومة أن تكشف للرأي العام أسماء المصحات الخاصة التي استفادت من الدعم إن وُجد، وأن تقدم حصيلة واضحة لتدبيرها في هذا الملف. كما عليها أن تضع حداً لسياسة التبرير والصمت، لأن الغموض في القضايا الصحية يفتح الباب أمام الغضب والاحتقان الاجتماعي.
باليقين المطلق، لا يمكننا بناء إصلاح صحي على أنقاض الثقة، ولا يمكن الحديث عن عدالة في العلاج ما دامت الحكومة تتلكأ في إنصاف أطرها وتبرير توجيه أموالها. الشفافية ليست خياراً، والمحاسبة ليست انتقاماً، بل هما الشرطان الوحيدان لبناء منظومة صحية عادلة، تحفظ كرامة المريض والطبيب على حد سواء.