يعيش الشعب الإسباني، منذ ليلة يوم الثلاثاء 29 أكتوبر الماضي، على صدمة مخلفات عاصفة La Dana، التي تركت وراءها خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية ببعض مناطق إسبانيا. وكانت جهة فالنسيا الأكثر تضررا من مرور هذه العاصفة الهوجاء، التي رافقتها تساقطات تجاوزت 800 ملم في المتر مربع في بعض الأماكن حسب تصريحات بعض خبراء أحوال الطقس بإسبانيا.
مشاهد رعب حقيقية عاشها سكان المناطق المنكوبة وهم يتابعون كيف أن السيول المحملة بالوحل والأشجار والحجارة كانت تجرف كل ما يقف في طريقها من أشخاص وعربات وتجهيزات حضرية وقناطر، إلخ. بينما صار منسوب المياه يرتفع ليغمر كل الطبقات السفلى للمباني بمن فيها. خلال صباح اليوم الموالي، استفاق سكان مناطق “شيفا” و”ألدايا” و”بايبورطا” و”الفارفار” و”بنوتوسين” على انقطاع التزويد بالماء والكهرباء عن مساكنهم، بينما يقومون بإحصاء خسائرهم، لتبدء رحلة البحث عن المفقودين. صار عدد الضحايا يرتفع تدريجيا إلى أن بلغ 224 حالة وفاة، 217 منها بمنطقة فالنسيا (احصائيات صباح الإثنين 4 نونبر) مع وجود المئات من المفقودين، تقول بعض الأرقام غير الرسمية المتداولة أن عددهم يفوق 1900 شخص.
لم يكن أمام أهالي المناطق المتضررة وقت لبكاء ضحاياهم أو الاسف على خسائرهم، بل كان عليهم مواجهة واقع جديد بأحيائهم بعد ان حولتها “لادانا” إلى خراب في خراب. سكان بعض العمارت وجدوا أتفسهم محاصرين داخل مساكنهم بدون ماء ولا كهرباء ولا مؤونة، بعدما تراكمت السيارات التي جرفتها السيول بمداخل العمارات.
أعلنت السلطات العمومية الإسبانية ثلاث أيام حداد، وألغت بعض التظاهرات الرياضية والفنية والثقافية، بينما ظلت وسائل الإعلام الرسمية والبديلة تتناقل مشاهد صادمة ومأساوية من داخل ما أصبح يطلق عليه ب”المنطقة الصفر”. صارت الأيام تتوالى بينما الوضع بالمناطق الأكثر تضررا يزداد تعقيدا بسبب غياب برنامج للإغاثة وانعدام الآليات اللازمة لإعادة بناء الأحياء والقرى المنكوبة وتخليصها من مخلفات الطوفان. وفي ظل ضعف تدخل المؤسسات العمومية المختصة، حجت جحافل من الشباب الإسباني لمساعدة السكان المتضررين من العاصفة على لملمة جراحهم، محملين بالأغدية والملابس والاغطية وبعض الادوات المنزلية البسيطة لتنظيف الشوارع من ملايين الاطنان من الوحل ومئات الآلاف من العربات المتراكمة بالشوارع. كان مرور الساعات يزيد من تأجيج الشعور بالعزلة بين مواطني المناطق التي جرفتها سيول “لادانا” ويغدي بينهم القناعة بان المسؤولين السياسيين قد تخلوا عنهم، بينما يعمل هؤلاء السياسيين على التراشق البوليميكي من خلال تبادل الاتهامات وتحميل المسؤولية بين الحكومة المركزية، التي يرأسها “بيدرو سانشيز” عن الحزب الاشتراكي العمالي، والحكومة الجهوية لفالنسيا، التي يقودها “كارلوس ماثون”، عن الحزب الشعبي اليميني.
السلطات الحكومية المركزية تحججت لتبرير تأخرها الكبير في التدخل بالصلاحيات الموسعة للحكومة الجهوية لتدبير مثل هذه الأزمات وبكون تدخلات الإنقاذ والإغاثة وإعادة البناء يجب أن تقودها حسب نظام الحكم في إسبانيا الحكومات الجهوية، والتي عليها طلب الدعم من السلطات المركزية في حالات العجز عن مواجهة الوضع. بينما ظل “كارلوس ماثون” يلقي باللائمة على الحكومة الاسبانية بسبب تخاذلها واتخاذها موقف المتفرج مما كان يحدث في فالنسيا، وأن الوضع لم يكن يقتضي التقدم بأي طلب للدعم في ظل فظاعة المشاهد وحجم الخسائر، مؤكدا في تصريحات لإذاعة COPE الإسبانية انه طالب “منذ البداية بحشد أعلى مستوى من التعبئة الضرورية” للمساعدات. (EFE)
جراء كل هذا، وبينما كان المسؤولون السياسيون منشغلون بهذا السجال السياسي والتراشق بالتهم، ساد استياء عميق وسط سكان منطقة “لاتوريا” (فالنسيا) بسبب ضآلة المساعدات التي كانوا يتلقونها من السلطات العمومية، ظلت الاخبار تتناسل بين المؤكد والمزيف بخصوص وجود ضحايا كثر محاصرين بمواقف تحت أرضية للسيارات، وانتشر بين الأهالي مثل النار في الهشيم شعار “Solo el pueblo salva al pueblo” (الشعب وحده كفيل بإغاثة الشعب).
لقد عرت هذه الكارثة “الطبيعية”، كما يحدث غالبا في مختلف بقاع العالم، بعض مظاهر ضعف الدولة الإسبانية وبعض الاعطاب العميقة التي لازالت تعاني منها الدولة الإسبانية، خصوصا فيما يتعلق بآليات وأساليب تصريف الصراع السياسي بين مختلف قوى اليسار واليمين. كما كشفت “لادانا” الوجه البشع لمخططات التعمير في إسبانيا، التي لا سلطة تعلو فيها فوق سلطة الآجور، وهي التي أنتجت تجمعات سكنية شديدة الكثافة السكانية فوق مناطق مهددة بالفيضانات والجرف، بسب قربها من المسارات الطبيعية للأنهار والأودية أو فوقها مباشرة، مع غياب الإجراءات الإحترازية الخاصة بالبناء في مثل هذه المناطق. إذ صار الكل يتساءل كيف تم الترخيص ببناء موقف للسيارات بطابقين تحت أرضيين في مناطق مشرفة على الخنادق والوديان؟! “الكثير مما نراه اليوم من شوارع هي في الأصل إما امتدادات طبيعة أو تفرعات للأنهار والأودية.” صرح أحد الجغرافيين لقناة تلفزية إسبانية.
التدبير الكارثي لما بعد مرور “لادانا” من طرف السلطات الإسبانية, كان أسوء وقعا وإيلاما على المتضررين في ضواحي فالنسيا من ذاك الطوفان الذي ضرب المنطقة مساء وليلة الثلاثاء الاسود. فوسط غضب عارم بين المواطنين قرر ملك اسبانيا “فيليبي السادس” القيام بزيارة للمنطقة المنكوبة رفقة عقيلته “ليتيسيا” ورئيس الحكومة الاسبانية “بيدرو سانشيز” ثم رئيس حكومة فالنسيا “كارلوس ماثون”، وهي الزيارة التي تعرض خلالها المسؤولون الاربع لكل أنواع السب والشتم والإهانة مع تعريض سلامتهم الجسدية للخطر، بعد أن استقبلوا برفض شديد من قبل السكان، في مشاهد غير مسبوقة في تاريخ الديمقراطية الإسبانية. وهو ما أعطى الانطباع للعالم أن إسبانيا دولة تعيش على وقع الفوضى.
إن نظام الحكم في إسبانيا، وطبيعة الصراع السياسي بها، والسياسة الترابية القائمة على الاستقلال شبه الكامل للجهات 17، والتعقيدات بيروقراطية، كلها عوامل أعاقت وأخرت عمليات إنقاذ المناطق المنكوبة في فالنسيا بشكل غير مقبول جراء عاصفة “لادانا”، ونقل إلى العالم صورا ومشاهد مؤلمة عن ضحايا متروكين لقدرهم في ظل فشل مؤسسات الدولة الإسبانية في تدبير هذه الكارثة، وهو الفشل الذي انصاف الى الجراح الكثيرة التي خلفهتها السيول وراءها، وهو ما ينذر بطوفان سياسي قادم بإسبانيا بعد ان تتلتئم جراح “لادانا”.