بعد سنوات عديدة سأعود لقراءة رواية “مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير، وهي رواية تطلبت خمس سنوات لكتابتها من طرف غوستاف فلوبير. كتبها هذا الروائي الذي انشغل بالصنعة في الكتابة الروائية انطلاقا من حادث متنوع لسيدة انتحرت كتبت عنها الصحافة.
إن هذا مالم ينتبه له من قرأ هذه الرواية، إلا القلة القليلة، ولكن ” مدام بوفاري” كرواية لم تمت حتى اليوم وهي رواية عميقة.
إن هذه الرواية هي وليدة مجتمع فرنسي كان يدعي المحافظة على القيم، إلا أنه لا يكشف عن وجهه الحقيقي، والذي هو الخيانات الزوجية، ولكنه مبني على الزيف والخداع.
إن القائم بالسرد في هذه الرواية لا يكشف عن الشخصيات والأحداث والزمكان إلا من خلال عمليتي السرد والتعريف والوصف، من خلال جمل طويلة وقصيرة، وهي جمل مصنوعة بإتقان، جمل مفكر فيها، ولم تكتب اعتباطيا، ومما يجلب الجمالية لهذه الرواية هو الاعتماد على الوصف، وإن الوصف في هذه الرواية هو ما يأخذ المعنى العميق فيها، ذلك أن غوستاف فلوبير يكثر من الوصف بشكل واضح، وهو ما يعطي للأشياء قيمتها ودلالتها. إن ما يوصف هنا لاقيمة ولادلالة له إلا من خلال تلك الامتدادات والأضواء والظلال والتفصيلات التي تتكاثف في الرواية، الأمر الذي جعل من غوستاف فلوبير سيد الوصف في الرواية كما هو سيد الصنعة.
إنه كان حريصا على أهمية الجملة المصنوعة والتي توضع في موضعها، فلا إضافات عنده، بل إن غوستاف فلوبير كان يستعمل الحذف، ومن هنا متعة الأثر الأدبي عنده، إنه ليس حاملا للفكرة، بل للحس البصري، ومن هنا، اكتمال النظرة، ولعل ألان روب غريبه استفاد من هذا الجزء الوصفي عند غوستاف فلوبير محققا هدفيته، والمتجسدة تحديدا في بسط الأشياء، والاعتماد على الوصف على مستوى الجملة، إلى درجة أنه أضحى مسمى ب”فلوبير الصغير”.
إن هذا التفوق في الوصف في روايات غوستاف فلوبير بتمامها، وليس في رواية ” مدام بوفاري” بالذات، ليس مبنيا إلا من خلال أسلوبه، ونظرته للعالم وأشيائه، ولحركية العين عنده.
إن حركية العين عنده لاتسجل فقط، وإنما تدرك وتحول وتتخيل، فتغدو الجملة مصنوعة، ومكتوبة بعد تأمل وألم ومعاناة، بل بعد قتال معها، ولهذا يلاحظ عند قراءة رواية ” مدام بوفاري” التي لست في حاجة لأن أقدم هنا فكرة عنها، لأن أحداثها معروفة، وشخصياتها معروفة، أيضا، ذلك الوصف الدقيق والمتدفق بروح بعيدة الغور.
إن شخصيات هذه الرواية ك” خسارات بشرية” كما يقول رولان بارت في حديثه عن شخصيات الروايات هي كائنات ورقية، وليست كائنات من لحم ودم. إنها أجزاء من جسم غوستاف فلوبير، ولكنها لها استقلاليتها، إنها ناجمة عن منتوج خيال. كل حركاتها وسكناتها، حقائقها وخياناتها، أفعالها وأقوالها المنشأة، هي ما يجعل الأحداث محتملة، ولكنها هي شخصيات قد توجد في المجتمع الفرنسي في تلك الفترة وفي غيرها، أو في العديد من المجتمعات، إنها مجموع سكان الرواية، التي تعيش بتألم وفي زيف وخداع، كما هو حال إيما الحالمة الرومانسية والخائنة لزوجها شارل بوفاري بارتمائها بعد ملل في أحضان عشاقها ومستغليها الذين يدفعونها بسبب ثقتها العمياء وتراكم الديون عليها إلى الإذلال، ثم إلى الانتحار.
إن فشل إيما ليس في الثقة العمياء والعيش في أحلام لاتتحقق في الواقع فحسب، من نظرة أخرى، وإنما هي الرغبة في الموت للتحرر من الزيف والخداع والكذب.
إن انتحارها هو دلالة على خيبة الأمل ورفضها للمجتمع الذي يعيش في تناقضات غريبة، وليست هذه التناقضات المجتمعية إلا ظلالها هي ذاتها.
إن إيما ليست شخصية بريئة، ولا هي ضحية، بل هي التناقض والتألم ورفض الواقع والملل الذي ليس شيئا ٱخر سوى ذلك العنكبوت الصامت.
أقرأ في الرواية” … الملل ذلك العنكبوت الصامت الذي كان يغزل نسيجه في الظلال في كل ركن من أركان قلبها…” ( مدام بوفاري، غوستاف فلوبير، ترجمة محمد مندور).
إن انتحارها ليس سببيا فحسب، بل هو ناتج عن ظلالها الداخلية، في لاوعيها، وتعدد ذاتها، وفي قلبها الرهيف والرقيق، حيث تنمو الحركات والرغبات كالسنابل.
بعض النقاد والمحللين كتبوا… بل منهم من قال إن الشخصية الرئيسية والمحورية لرواية “مدام بوفاري” هو شارل بوفاري وليست أيما، وغوستاف فلوبير يقول ” إيما، هي أنا”، وهناك اختلافات حول هذا الشكل من النقد والتحليل، ولكن، في الواقع، إذا كان شارل بوفاري هو الشخصية الرئيسية والمحورية في هذه الرواية، فلماذا عنونها غوستاف فلوبير ب” مدام بوفاري”؟! هنا لغز الرواية وخدعة غوستاف فلوبير.
إن هذا هو إشكال الرواية، أي رواية والذي يوجد خصيصا في بدايتها ونهايتها ونهايتها وبدايتها.
إن صاحب ” مدام بوفاري” ترك الأمر ملغزا، فليس الانتحار هو نهاية الرواية، بل النهاية هي ما يأتي بعده، ذلك لأن مايجعل رواية” مدام بوفاري” حية، هو مايأتي بعد الانتحار، فليس موت مدام بوفاري إلا بداية لما سيأتي، والذي لن يكون إلا بالعودة إلى بدايتها حيث إن الطفل يسكننا ويكبر فينا، إنه كالماضي الذي لايعود، والٱتي الذي لايدرك.
كل تصور غوستاف فلوبير في رواية ” مدام بوفاري” هنا.
